فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة فصلت:

سورة حم السجدة: مكّية، وهي أربع وخمسون آية، وسبعمائة وست وتسعون كلمة، وثلاث آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفاً.
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 11):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}
{حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ} بينت {آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ولو كان غير عربي لما علموه.
وفي نصب القرآن وجوه:
أحدها: إنّه شغل الفعل علامات حتّى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب القرآن وقوع البيان عليه.
الثاني: على المدح.
والثالث: على إعادة الفعل، أي فصَّلنا قرآناً.
والرابع: على إضمار فعل، أي ذكرنا قرآناً.
والخامس: على الحال.
والسادس: على القطع.
{بَشِيراً وَنَذِيراً} نعتان للقرآن {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعونه ولا يصغون إليه {وَقَالُواْ} يعني مشركي مكّة {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} أغطية {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} فلا نفقه ما يقول، قال مجاهد: كالجعبة للنبل {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} فلا نسمع ما يقول، وإنّما قالوا ذلك ليؤَيّسئوه من قبولهم لدينه وهو على التمثيل. {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} خلاف في الدين، فجعل خلافهم ذلك ساتراً وحاجزاً لا يجتمعون ولا يوافقون من أجله ولا يرى بعضهم بعضاً. {فاعمل} بما يقتضيه دينك. {إِنَّنَا عَامِلُونَ} بما يقتضيه ديننا. قال مقاتل: فأعبد أنت إلهِك، وإنّا عابدون آلهتنا.
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} قال الحسن: عَلَمَهُ الله التواضع {فاستقيموا إِلَيْهِ} وجهوا وجوهكم إليه بالطاعة والإخلاص {واستغفروه} من ذنوبكم الّتي سلفت. {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} قال ابن عباس: لا يشهدون لا إله إِلاَّ الله وهي زكاة الأنفس، وقال الحسن وقتادة: لا يقرّون بالزكاة ولا يؤمنون بها، ولا يرون إيتاءها واجباً، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة.
وكان يقال: الزّكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أما الصلاة فنصلي، وأما الزّكاة فوالله لا تغصب أموالنا.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أفرق بين شيء جمع الله تعالى بينه والله لو منعوني عقالاً ممّا فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
وقال مجاهد والربيع: يعني لا يزكّون أعمالهم، وقال الفراء: هو أنّ قريشاً كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمّد صلى الله عليه وسلم {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال ابن عباس: غير مقطوع. مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنّه ينقص منه الإنسان أي قوته. مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير ممنون به. قال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعلمون فيه.
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْن} الأحد والأثنين. {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} أي في الأرض بما خلق فيها من المنافع، قال السدي: أنبت شجرها.
{وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} قال الحسن والسدي: يعني أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقال مجاهد وقتادة: وخلق فيها بحارها، وأنهارها، وأشجارها، ودوابها في يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، روى ابن نجيح عن مجاهد، قال: هو المطر.
قال عكرمة والضحاك: يعني وقدر في كل بلدة منها، ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، فالسابري من سابور، والطيالسة من الري، والحبر واليمانية من اليمن، وهي رواية حصين، عن مجاهد.
وروى حيان، عن الكلبي، قال: الخبز لأهل قِطر، والتمر لأهل قِطر، والذرة لأهل قِطر، والسمك لأهل قِطر، وكذلك أخواتها.
{في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} يعني إنّ هذا مع الأول أربعة أيّام، كما يقول: تزوجت أمس امرأة واليوم اثنتين وأحدهما الّتي تزوجتها أمس، ويقال: أتيت واسط في خمسة والبصرة في عشرةِ، فالخمسة من جملة العشرة. فرد الله سبحانه الآخر على الأوّل، وأجمله في الذكر.
{سَوَآءً} رفعه أبو جعفر على الإبتداء، أي هي سواءٌ، وخفضه الحسن ويعقوب على نعت قوله: في أربعة أيّام، ونصبه الباقون على المصدر، أي استوت إستواءً، وقيل: على الحال والقطع، ومعنى الآية: سواءً. {لِّلسَّآئِلِينَ} عن ذلك، قال قتادة والسدي: من سأله عنه، فهكذا الأمر، وقيل: لّلسائلين الله حوائجهم.
قال إبن زيد: قدر ذلك على قدر مسائلهم، لأنّه لا يكون من مسائلهم شيء إلاّ قد علمه قبل أن يكون.
قال أهل المعاني: معناه سواءً لّلسائلين وغير السائلين، يعني إنّه بيّن أمر خلق الأرض وما فيها لمن سأل ومن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لم يسأل.
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} أي عمد إلى خلق السماء وقصد، تسويتها، والإستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ثمّ استوى إلى السّماء. {وَهِيَ دُخَانٌ} بخار الماء. {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع، وإخرجاها، وإظهراها بمصالح خلقي. قال ابن عباس: قال الله تعالى للسّموات: إطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقي أنهارك اخرجي ثمارك.
{قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} ولم يقل طائعتين، لأنّه ذهب به إلى السّماوات والأرض ومن فيهنّ، مجازه: أَتينا بمن فينا طائعين، فلمّا وصفهما بالقول أخرجهما في الجمع مجرى ما يعقل، وبلغنا أنّ بعض الأنبياء، قال: ياربّ لو إنّ السّماوات والأرض حين قلت لهما ائتيا طوعاً أو كرهاً عصيناك، ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت أأمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: وأين تلك الدابة؟. قال: في مرج من مروجي. قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي.
وقرأ ابن عباس: أئتيا وآتينا بالمد، أي اعطينا الطاعة من أنفسكما. قالتا: أعطينا.

.تفسير الآيات (12- 20):

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)}
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي أتمهنَّ وفرغ من خلقهنّ {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} قال قتادة والسدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وخلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الّذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يُعلم، وقيل: معناه وأوحى إلى أهل كلّ سماء من الأمر والنهي ما أراد.
{وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} كواكب. {وَحِفْظاً} لها من الشياطين الّذين يسترقون السمع، ونصب حفظها على المعنى، كأنّه قال: جعلها زينة وحفظاً، وقيل: معناه وحفظاً زيّنّاها على توهم سقوط الواو أي وزّيّنا السّماء الدّنيا بمصابيح حفظاً لها، وقيل: معناه وحفظها حفظاً.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم * فَإِنْ أَعْرَضُواْ} يعني هؤلاء المشركين، {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} خَوفتكم. {صَاعِقَةً} وقيعة وعقوبة {مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ} يعني عاداً وثموداً {الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} يعني قبلهم وبعدهم.
وأراد بقوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم من قبلهم ومن خلفهم، يعني من بعد الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم، وهو الرسول الّذي أرسل إليهم، هود وصالح عليهما السلام، والكناية في قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} راجعة إلى عاد وثمود، وفي قوله تعالى: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، راجعة إلى الرسل.
{أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} بدل هؤلاء الرّسل ملائكة. {فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني، قرأه عليه في شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، حدثنا أحمد بن نجدة بن العُرْيان، حدثنا الجماني حدثنا ابن فضيل، عن الأجلح من الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال الملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمّد، فلو إلتمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه ثمّ أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيع: والله لقد سمعت بالشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علماً، وما يخفى عليَّ إن كان ذلك. فأتاه، فلما خرج إليه، قال: يامحمّد، أنت خير أم هاشم؟، أنت خير أم عبد المطلب؟، أنت خير أم عبد الله؟، فبم تشتم آلهتنا، ونضلك إيانا، فإن تتمنى الرئاسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كانت بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك، ورسول لله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما فرغ، قرأ رسول الله عليه السلام: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}... إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يامعشر قريش، والله ما نرى عتبة إلاّ قد صَبَأ إلى محمّد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلاّ من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلَقوا إليه.
فأتاه أبو جهل فقال: والله ياعتبة، ما حبسك عنّا إلاّ إنّك صبوت إلى محمّد، وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمّد. فغضب عتبة وأقسم ألاّ يكلم محمّداً أبداً، وقال: والله لقد علمتم إنّي مّن أكثر قريش مالاً، ولّكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر. {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}... إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم إنّ محمّداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
{فَأَمَّا عَادٌ} يعني قوم هود. {فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وذلك إنّهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي باردة شديدة الصوت والهبوب وأصله من الصرير، فضوعف كما يقال: نهنهت وكفكفت، وقد قيل: إنّ النهر الّذي يسمّى صرصراً إنّما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه.
{في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} متتابعات شديدات نكدات مشؤومات عليهم ليس فيها من الخير شيء، وقرأ أبو جعفر وإبن عامر وأهل الكوفة {نَّحِسَاتٍ} بكسر الحاء، غيرهم بجزمه.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا مخلد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا مقاتل عن الضحاك في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً}، قال: أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من غير مطر، وبه عن مقاتل، عن إبراهيم التيمي وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: إذا أراد الله بقوم خيراً، أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرّاً حبس عنهم المطر وأرسل عليهم كثرة الرياح.
{لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} لهم وأَشد إذلالاً وإهانه. {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ وأما وَأَمَّا ثَمُودُ} قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب، {ثَمُودُ} بالرفع والتنوين، وكانا يجران ثموداً في القرآن كله إلاّ قوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة} [الإسراء: 59]، فإنّهما كانا لا يجرانه هاهنا من أجل إنّه مكتوب في المصحف هاهنا بغير ألف، وقرأ ابن أبي إسحاق {وَأَمَّا ثَمُودُ} منصوباً غير منون، وقرأ الباقون مرفوعاً غير منون.
{فَهَدَيْنَاهُمْ} دعوناهم وبيّنا لهم. {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الكفر على الإيمان. {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ} مهلكة. {العذاب الهون} أي الهوان، ومجازه: ذي هون. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ} يبعث ويجمع، وقرأ نافع ويعقوب {نَحْشُرُ} بنون مفتوحة وضم الشين. {أَعْدَآءُ الله} نصباً. {إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ} يساقون ويدفعون إلى النّار، وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم. {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم} أي بشراتهم. {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقال السدي وعبيد الله إبن أبي جعفر: أراد بالجلود الفروج.
وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوين:
المرء يسعى للسلامة والسلامة حسبه ** أوسالم من قد تثنى جلده وأبيض رأسه

وقال: جلده كناية عن فرجه.

.تفسير الآيات (21- 32):

{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}
{وَقَالُواْ} يعني الكفّار الّذين يحشرون إلى النّار. {لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} حدثنا عقيل بن محمّد: إنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، أخبرنا علي بن قادم الفزاري، أخبرنا شريك، عن عبيد المكيت، عن الشعبي، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتّى بدت نواجذه، ثمّ قال: «ألاّ تسألوني مِمَّ ضحكت».
قالوا: مم ضحكت يارسول الله؟
قال: «عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، قال: يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فإنّ لك ذاك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهداً، إلاّ من نفسي. قال: أوَ ليس كفى بيّ شهيداً، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل».
قال: «فيقول لهنّ بُعداً لَكُنّ وسحقاً عنكنّ كنت أجادل».
قال الله تعالى: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أي تستخفون في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: تتقون. قتادة: تظنون. {أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أخبرنا الحسين بن محمّد ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون وعبد الله بن عبد الرّحمن الوراق، قالا: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن كثير وأبو حذيفة، قالا: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إنّي لمستتر بأستارِ الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قريشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فحدّثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا يسمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا فإنّه يسمع إذا خفضنا. فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فأنزل الله تعالى {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ}... إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} والثقفي عبد ياليل وختناه القريشيان ربيعة وصفوان بن أمية. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أهلككم. {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} قال قتادة: الظنّ هاهنا بمعنى العلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم، إلاّ وهو يحسن الظنّ بالله، وإنّ قوماً أساءوا الظنّ بربّهم فأهلكهم» فذلك قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم}... الآية.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي، حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزياد عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بيّ، وأنا معه حين يذكرني».
وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظنّ بربّه فليفعل، فإنّ الظنّ إثنان: ظنّ ينجي، وظنّ يردي، وقال محمّد بن حازم الباهلي:
الحسن الظنّ مستريح ** يهتم من ظنّه قبيح

من روح الله عنه ** هبّت من كلّ وجه ريح

لم يخب المرء عن منح ** سخاء وإنّما يهلك الشحيح

{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} يسترضوا ويطلبوا العتبى. {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} المرضيين، والمعتّب الّذي قَبل عتابة وأجيب إلى ما يسأل، وقرأ عبيد بن عمير {وإن تُستعتبوا} على لفظ المجهول {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} بكسر التاء، يعني إن سألوا أن يعملوا ما يرضون به ربّهم {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} أي ما هم بقادرين على إرضاء ربّهم لأنهم فارقوا دار العمل.
{وَقَيَّضْنَا} سلّطنا وبعثنا ووكلنا. {لَهُمْ قُرَنَآءَ} نظراء من الشياطين. {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدّنيا حتّى آثروه على الآخرة. {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث.
{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ} مع أمم. {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} من مشركي قريش. {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} قال ابن عباس: يعني والغطوا فيه، كان بعضهم يوصي إلى بعض، إذا رأيتم محمداً يقرأ، فعارضوه بالزجر والإبتعاد.
مجاهد {والغوا فِيهِ} بالمكاء والصفير وتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ.
قال الضحاك: إكثروا الكلام فيختلط عليه القول.
السدي: صيحوا في وجهه.
مقاتل: إرفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتّى تلبسوا عليهم قولهم، فيسكتوا.
أبو العالية: قعوا فيه وعيبوه.
وقرأ عيسى بن عمرو {والغوا فِيهِ} بضم الغين. قال الأخفش: فتح الغين، كان من لغا يلغا مثل طغا يطغا، ومن ضم الغين كان من لغا يلغوا مثل دعا يدعوا.
{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} محمداً على قراءته.
{فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ} أقبح. {الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدّنيا. {ذَلِكَ} الّذي ذكرت. {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله} ثمّ بيّن ذلك الجزاء ما هو، فقال: {النار} أي هو النّار. {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} فقد ذكر إنّها في قراءة ابن عباس ذلك جزاء أعداء الله النّار دار الخلد، ترجم بالدار عن النّار، وهو مجاز الآية.
{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن} وهو إبليس الأبالسة. {والإنس} وهو ابن آدم الّذي قتل أخاه. {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} في النّار. {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} في الدرك الأسفل لأنهما سنا المعصية.
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا الفضل الكندي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الزيدي العسكري، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة سلمة بن قتيبة، حدثنا سهل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} قال: من مات عليها، فهو ممّن استقام.
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا عبيد بن محمد بن شنبه، حدثنا جعفر ابن الفربابي، حدثنا محمد بن الحسن البلخي، أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن عمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، {ثُمَّ استقاموا} قال: لم يشركوا بالله شيئاً. أخبرنا ابن فنجويه الثقفي، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال وهو يخطب النّاس على المنبر: {الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} فقال: استقاموا على طريقة الله بطاعته، ثمّ لم يروغوا روّغان الثعالب، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: يعني أخلصوا العمل لله، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أدُّوا الفرائض. ابن عباس استقاموا على أداء فرائضه.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا محمد بن موسى الحلواني، حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور، حدثنا مسكين أبو فاطمة عن شهر بن حوشب، قال: قال الحسن: وتلا هذه الآية {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} فقال: استقاموا على أمر الله تعالى، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته. مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلاّ الله، حتّى لحقوا به. قتادة وابن زيد: استقاموا على عبادة الله وطاعته، ابن سيرين: لم يعوجّوا، سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. مقاتل بن حيان: استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا. مقاتل بن سليمان: استقاموا على إنّ الله ربّهم. ربيع: أعرضوا عما سوى الله تعالى. فضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. بعضهم: استقاموا إسراراً كما استقاموا إقرار، وقيل: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً. روى ثابت عن أنس إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: «أمتي وربّ الكعبة».
أخبرنا الحسن بن محمد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي وأحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم السني، قالا: حدثنا أبو خليفة الفضل بن حيان الجمحي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله الثقفي. قال: قلت: يارسول الله أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: «قل ربّي اللّه ثمّ استقم» قال: قلت: ما أخوف ما تخاف عليّ؟
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: «هذا».
وروي إنّ وفداً أقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، ثمّ بكى، فقالوا: أمن خوف الّذي بعثك تبكي؟ قال: «نعم، إنّي قد بعثت على طريق مثل حد السيف، إن استقمت نجوت، وإن زغت عنه هلكت».
وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية، قال: اللَّهم أنت ربّنا فارزقنا الاستقامة.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} عند الموت {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} قال قتادة: إذا قاموا من قبورهم. قال وكيع بن الجراح البسري: تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وفي البعث، ألاّ يخافوا ولا يحزنوا. قال أبو العالية: لا تخافوا على صنيعكم ولا تحزنوا على مخلفكم. مجاهد: لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم في دنيّاكم من أهل وولد ونشيء، فإنّا نخلفكم في ذلك كله. السدي: لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا على ما بعدكم. عطاء بن رباح: لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإنّي أغفرها لكم.
وقال أهل اللسان في هذه الآية: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} بالوفاء على ترك الجفاء {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} بالرضا أن لا تخافوا من العناء ولا تحزنوا على الفناء، وأبشروا بالبقاء مع الّذين كنتم توعدون من اللقاء، لا تخافوا فلا خوف على أهل الإستقامة، ولا تحزنوا فإن لكم أنواع الكرامة، وابشروا بالجنّة الّتي هي دار السلامة. لا تخافوا فعلى دين الله استقمتم، ولا تحزنوا فبحبل الله اعتصمتم، وأبشروا بالجنّة وإن ارتبتم وأُحزنتم، لا تحزنوا فطالما رهبتم، ولا تحزنوا فقد نلتم ما طلبتم، وأبشروا بالجنّة الّتي فيها رغبتم، لا تخافوا فأنتم أهل الإيمان، ولا تحزنوا فأنتم أهل الغفران، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الرضوان، لا تخافوا فأنتم أهل الشهادة، ولا تحزنوا فأنتم أهل السعادة، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الزيادة، لا تخافوا فأنتم أهل النوال، ولا تحزنوا فأنتم أهل الوصال، وأبشروا بالجنّة الّتي هي دار الجلال، لا تخافوا فقد أمنتم الثبور ولا تحزنوا فقد آن لكم الحبور وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار السرور، لا تخافوا فسعيكم مشكور ولا تحزنوا فذنبكم مغفور، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار النون، لا تخافوا فطالما كنتم من الخائفين، ولا تحزنوا فقد كنتم من العارفين، وإبشروا بالجنّة الّتي عجز عنها وصف الواصفين، لا تخافوا فلا خوف على أهل الإيمان، ولا تحزنوا فلستم من أهل الحرمان، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الإيمان، لا تخافوا فلستم من أهل الجحيم، ولا تحزنوا فقد وصلتم إلى الربّ الرحيم، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار النعيم، لا تخافوا فقد زالت عنكم المخافة، ولا تحزنوا فقد سلمتم من كلّ آفة، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الضيافة، لا تحزنوا العزل عن الولاية، ولا تحزنوا على ما قدمتم من الخيانة، وابشروا بالجنّة الّتي هي دار الهداية، لا تخافوا حلول العذاب، ولا تحزنوا من هول الحساب وابشروا بالجنّة الّتي دار الثواب.
لا تخافوا فأنتم سالمون من العقاب، ولا تحزنوا فأنتم واصلون إلى الثواب، وابشروا بالجنّة فإنها نعم المآب. لا تخافوا فأنتم أهل الوفاء ولا تحزنوا على ما كسبتم من الجفاء وإبشروا بالجنّة فإنها دار الصفاء لا تخافوا فقد سلمتم من العطب، ولا تحزنوا فقد نجوتم من النصب، وإبشروا بالجنّة فإنّها دار الطرب.
{نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ} تقول لهم الملائكة الّذين تتنزل عليهم بالبشارة: نحن أولياؤكم وأنصاركم وأحبّاءكم، {فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال السدي: نحن أولياؤكم يعني نحن الحفظة الّذين كنا معكم في الدّنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا ابن خالد، أخبرنا داود بن عمرو الضبّي أخبرنا إبراهيم ابن الأشعث عن الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ} في الحياة الدّنيا وفي الآخرة. قال: قرناؤهم الّذين كانوا معهم في الدّنيا، فإذا كان يوم القيامة، قالوا: لن نفارقكم حتّى ندخلكم الجنّة.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} تريدون وتسألون وتتمنون، وأصل الكلمة إنّ ما تدّعون إنّه لكم، فهو لكم بحكم ربّكم.
{نُزُلاً} أي جعل ذلك رزقاً. {مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}.